فندق ماجستيك| صراع بين الجمال و البقاء



فندق ماجستيك

(1)

لنبدأ القصة من البداية.
ميدان المنشية. أوائل القرن العشرين.
ها هو امتداد جديد قد تم تخطيطه وتصميمه وتشجيره، ليصل بين الميدان الأصلي، "ميدان محمد علي" بأبعاده شديدة الاستطالة، 60 مترا في 240 مترا، و بين البحر المتوسط، حتى يتصل الميدان الأصلي مع  المتنزه الجديد الذي تم انشاؤه بطول الميناء الشرقية، "الكورنيش" أو متنزه عباس حلمي الثاني كما كان يسمى وقت انشائه.
الامتداد الجديد لميدان المنشية سُمي "الحدائق الفرنسية" Les Jardins Français. في الأصل، هذه الرقعة كانت تشغلها القنصلية الفرنسية منذ منحها محمد علي للفرنسيين في النصف الأول من القرن التاسع عشر. هدمت هذه القنصلية في 1882 أثناء قصف الأسطول الانجليزي للإسكندرية وما تبعه من حرائق وأعمال عنف استمرت أياما، في أحداث ربما كانت الأصعب في تاريخ المدينة الحديث، والتي انتهت للأسف باحتلال بريطانيا الكامل لمصر.
في هذا "الكارت بوستال" نستطيع أن نرى الميدان الجديد فور الانتهاء من تنفيذه. في أقصى يمين الصورة، نرى بناءا جديدا لا يزال تحت الإنشاء. إنه وقف "يعقوب دهان"، أو ما صار فيما بعد "فندق ماجستيك".
ميدان الحدائق الفرنسية في بدايات القرن العشرين (إضغط للتكبير)
   (الصورة الأصلية كارت بوستال من موقع  akpool.co.uk)
الميدان الجديد كان اسما على مسمى. صممت "الحدائق الفرنسية" بالفعل على النسق الفرنسي في تصميم الحدائق، والذي يتميز بإضفاء النظام والتماثل الهندسي على الطبيعة. فتجد الميدان (كما يظهر بالصورة، بعد سنوات قليلة) قد تم تحديده بصفّين من النخيل، بينهما ممرات للمشاة محددة بصفوف متماثلة من الأشجار والشجيرات ومساحات النجيل. خطوط بسيطة وأنيقة. في نهاية الميدان أُنشأت القنصلية الفرنسية الجديدة مطلة على المتوسط. صممها مكتب الأشغال العامة الفرنسي في 1912 بالتنسيق مع المعماري الفرنسي المقيم بالإسكندرية فيكتور اُرلانجيه Victor Erlanger، والذي صمم أيضا عددا من المباني المميزة في الإسكندرية مثل مبنى منظمة الصحة العالمية والمبنى الذي يشغله الآن المركز الثقافي الأمريكي.
الحدائق الفرنسية في الثلاثينيات من القرن العشرين
 
(من كتيب Impressions of Alexandria: An Exhibition of the Awad Collection)
ليتكامل مع هذا الطابع الفرنسي، صمم المعماري هنري غُرة بك Henry Gorra Bey مبنى وقف دهان (فندق ماجستيك) بتأثير فرنسي واضح في بداية العقد الثاني من القرن العشرين. غرة بك كان معماريا سكندريا درس العمارة بالمدرسة المركزية باريس École Centrale Paris،  تعتبر مدرسة كلية فيكتوريا بالإسكندرية الانجليزية أشهر وأهم أعماله، إلى جانب بعض الأبنية السكنية الأخرى و بنك دي روما بشارع فؤاد الأول (الآن البنك الأهلي). في هذه الصورة النادرة، التي ضمنها د. محمد عوض في كتابه الموسوعي الأخير، نرى المبنى قرب الانتهاء من تنفيذه، بقبتيه المميزتين.. بهاء فريد أضاف الكثير إلى تميز الميدان الجديد.
فندق ماجستيك حوالي عام 1910 
(من كتاب د. محمد عوض Italy in Alexandria: Influences on the Built Environment)
في هذا الفندق الفاخر، قضى الروائي الانجليزي الشهير إ. م. فورستر E. M. Forester شهور إقامته الأولى في الإسكندرية في 1915، ومنه بدأ استكشافه للمدينة المزدهرة والتي كتب عنها  لاحقا في أوائل العشرينيات كتابه شديد الأهمية "الإسكندرية: تاريخ ودليل" Alexandria: A History and a Guide. حتى اليوم يأتي السياح إلى الميدان باحثين عن المبنى الذي أقام به الأديب الكبير.

العلامة المميزة للفندق كانت توضع على حقائب المسافرين 
(من موقع aaha.ch، خاصة بالسيد Mohamed Aly Nofal)
كارت بوستال آخر: الفندق والميدان في الثلاثينيات
(من مجموعة Lehnert & Landrock)

(2)

تمر الأيام، وتتغير الإسكندرية كثيرا.
ميدان الحدائق الفرنسية أصبح بعد ثورة 1952 "ميدان عرابي". أما الحدائق نفسها، فقد أزيلت بالكامل في الستينيات. بالكامل! وحل محلها.. محطة رئيسية للأوتوبيسات. وبمرور السنوات، أصبح الميدان واحدا من أكثر ميادين الإسكندرية تلوثا وتشوها وضوضاء. لا مزيد من كروت البوستال.. لا أشجار أو نخيل.. فقط عربات ركاب متهالكة تسيل الزيوت العكرة من محركاتها المزعجة.
جريمة بحق!
"ميدان عرابي" في أواخر القرن العشرين 
(من مدونة حكايات مصرية)
وماذا حدث "للماجستيك"؟
الفندق صار مبنى مكاتب متواضع. مكاتب محاماة وتسويق وشركة كبيرة للمَهمات العسكرية. بهو الفندق تم تقسيمه إلى محلات تجارية. أما المدخل فأصبح بابا ضيقا يؤدي إلى مصعد صدئ ومعطل. وعندما تم "تطوير الميدان" في بداية الألفية، وُضعت أمام المدخل مباشرة مظلة خرسانية شديدة الضخامة لانتظار للركاب. لم يبق من الفندق سوى اسمه المحفور فوق الباب.
وحتى هذا لم يعد موجودا اليوم.
مدخل المبنى في 2004
(صورة من أرشيف الصديق د. محمد صبحي)

(3)

مبنى الفندق مدرج في قوائم التراث. لكن أخبارا مؤسفة تفيد بخطورته على سكانه وعلى المارة. أصبح "الماجستيك" متهالكا. الزخارف تتساقط والحوائط تميل. تحالَف عليه الزمن والإهمال وسوء الاستخدام والإضافات غير المدروسة، فأصبح في حالة يرثى لها.
(تصوير محمد عادل دسوقي)
قمت بزيارة خاصة المبنى في 2009، وأتيحت لي الفرصة أن أصعد لسطحه. تحمست بالطبع، فطالما تمنيت أن أرى قبتي فندق الماجستيك عن قرب. لسنوات طويلة كنت أطالعهما كل صباح عند ذهابي لمدرستي ثم لجامعتي. اصطحبت الكاميرا و"الاسكتش بوك " وصعدت للسطح سريعا..
وليتني ما فعلت!
قبة فندق ماجيستيك: قطاع تخيلي
بعد عقود من التدهور أصبح المبنى بأكمله في حالة إنشائية مروعة. القبتان المميزتان تتلآكلان بشكل عجيب. الدور الأخير منهار بالفعل. هالني ما رأيت.

 

من الواضح ان المبنى بحاجة ماسة للتدخل السريع والترميم. لكن .. من سيرمم؟ السكان وأصحاب المكاتب؟ المالك؟ المحافظة؟ وزارة الثقافة؟ 
تمر السنون، ولا أحد يعرف الإجابة.

(4)

اليوم ان قمت بزيارة ميدان المنشية، وتحديدا ميدان عرابي، حاول أن تشق طريقك في الزحام المخيف، جاهد كي تمر بين ما افترشه المئات والمئات من الباعة من بضائع رخيصة على كل شبر من أرصفة الميدان. اقترِب من المبنى. الآن هو "ماجيستيك مول"، هكذا ستخبرك الحروف البلاستيكية الزرقاء الضخمة. اقربت؟ لاحظت؟ نعم، لقد اختفت احدى القبتين اللتين طالما زينتا سماء الميدان، ربما أزالها المالك أثناء "الانفلات الأمني" خوفا من سقوطها على الرؤوس.
الآن، لا تمنع نفسك من السؤال عن مصير المبنى المتهالك.. ولكن لا تنتظر أن تحصل على جواب.
(تصوير محمد عادل دسوقي، 2012)

View فندق ماجيستيك in a larger map

0 comments:

Post a Comment